نظرية الدوائر الثلاث.. مقاربة استراتيجية لحربنا مع الجنجويد (٢-٣).. صهيب خامد
نظرية الدوائر الثلاث.. مقاربة استراتيجية لحربنا مع الجنجويد (٢-٣)..
صهيب خامد
وكما فصّلنا في الحلقة السابقة حول مواقف دول الدائرة الأولى من الحرب في السودان ، نأتي في هذه الحلقة لنفصٍل مواقف دول الدائرة الثانية. تشمل هذه الدائرة كل من تركيا وقطر والسعودية وليبيا طرابلس والجزائر وإيران. هذه الدول جميعها ذات ارتباط ومصالح مع السودان وذات انخراط بطرائق مختلفة في الحرب الدائرة اليوم، ولكن من يد فهذه الدول كذلك تتضارب مصالحها كليا أو جزئيا في هذا المضمار عن مصالح الدويلة ، فهي دول ذات رشد سياسي وسيادي تضع نصب أعينها في الدرجة الأولى مصالحها القومية قبل المنافع الشخصية. إذن هل تلتقي مصالح هذه الدول مع الجيش السوداني في ضرورة أضعاف موقف الدويلة للحيلولة دون تحقيق أهدافها في السودان؟ هل تواطئت كل من تركيا وقطر والجزائر وليبيا طرابلس مع الجيش السوداني وذلك بتوفير القاعدة اللوجستية بليبيا طرابلس لمنسوبي القوة المشتركة (الزغاوة والمساليت على وجه التحديد) ومساهمة قطر بالتمويل وتركيا والجزائر بالسلاح و التدريب؟ وهل نجح هذا التدبير في ترجيح كفة الحرب في دارفور (خصوصا في شمال وغرب دارفور) لصالح الجيش وفك الحصار عن مدينة الفاشر؟. وهل تنجح هذا الاستراتيجية في شغل المليشيا ومن خلفها الدويلة بدارفور لتخفيف الضغط عن الخرطوم وسنار والجزيرة ؟ وهل ذلك عين ما حدث؟ وهل أن هذه الاستراتيجية كذلك كانت السبب في تقدم الجيش في كل من ولايتي سنار والجزيرة إلى جانب التقدم الذي أحرز بكل من بحري المقرن والان يضاف إليه التقدم لربط تماسيح النيل بالهجانة بواسطة متحرك الهجانة ؟. إذن يبدو أن رهان هذه الحرب ليس كتاباً نحكم عليه من عنوانه ولكن أدنى مقاربة استراتيجية تؤكد العزلة الإقليمية للمليشيا ودويلتها وعدم اتفاق دول الإقليم مع مخططها في السودان ومثالنا التالي يمكن أن يمنح إضاءة لذلك. فالمملكة العربية السعودية تتلاقى مع الدويلة في هدف مشترك ، فأسوا كوابيسهما أن يصبح صبح ويجدون معين التغذية السوداني من الجند مدفوعي القيمة قد نضب نتيجة تغير سياسة الدولة السودانية من حرب اليمن، فالبلدان يعتمدان على قوات المشاة السودانية سواء ََمن الجيش أو الدعم السريع. صحيح أن الإمارات بعد خلافها مع السعودية في اليمن الجنوبي قد اتجهت للاعتماد على معين صاف من المليشيا هناك، ولكن لم تزل السعودية تعتمد على كليهما في امدادها البشري. إذن فإن كل من السعودية والدويلة يتفقان على وجوب إيجاد دور للدعم السريع بعد الحرب لايمانهما انه ليس من معين لا ينضب للجند مدفوعي القيمة أفضل من حواضن الجنجويد وإذا ما انتصر الجيش في هذه الحرب فإن أول ما سيفعله هو تغيير سياسته بخصوص اليمن، وذلك هو جوهر منبر جدة الذي طالما ضغطت السعودية على الجيش للرضوح لمخرجاته (رغم تملص المليشيا من التقيد ببنوده) لضمان هذا الهدف وهو ما فشلت فيه تماما إلى هذه اللحظة. ولكن رغم هذا التلاقي فإن السعودية تظل أقرب للموقف المصري في وجوب أفشال مخطط الدويلة في السيطرة على السودان وذلك هو سبب تناقض المواقف السعودية التي تصادر قوارب السلاح القادمة للجيش السوداني من يد وتشجع المصريين في دعمهم للجيش كلما تقدمت المليشيا أكثر مما يلزم. لكن من يد فثمة تناقض آخر ، فان خشيت السعودية من نضوب معين الجند السودانيين فهناك طرف لا هدف له إلا نضوب هذا المعين وهو إيران التي تعمل من أجل تحسين موازين القوى في الجزيرة العربية لصالح الحوثيين الأمر الذي سيحدث إن انسحب السودان بجنده من حرب اليمن، وهل سيحدث غير ذلك إن انتصر الجيش السوداني في هذه الحرب؟ . أن أحد الأهداف المهمة للدبلوماسية الإيرانية الآن هو كسب السودان لصالح معركتها في البحر الأحمر عبر تقديم الدعم للجيش السوداني في هذه المعركة بالذات وهو ما سيوجب على السودان فيما بعد سحب اي دعم قدمه طيلة العقد السابق بهدف هزيمة الحوثيين في اليمن. إن أيران تتفهم عدم سحب الجيش السوداني لقواته المتواجدة الآن باليمن لضمانها عدم إمكانية استخدامها من قبل السعوديين ضد الحوثيين بسبب اتفاقية التهدئة التي أبرمتها مع السعوديين ببيكين قبل أكثر من عام من الآن (Saudi-Iranian detente), ولكن قطعا فأن على السعوديين التفتيش عن مصدر آخر للجند في حال انفجار الوضع مع الحوثيين من جديد إذ ليس للسودانيين مصلحة للحرب معهم مرة أخرى وهم (اي السعوديين) الذين لم يصرفوا سنتيماً لصالح من دفق دمائه ثخينة للدفاع عنهم منذ ٢٠١٦ في اليمن لأنهم اعتقدوا انهم قد دفعوا المقابل بالريالات وليسو مجبرين على دفع المقابل موقفاً بموقف لأنعدام الندية بيننا وبينهم ، على الأقل ذلك مافي روعهم والايام دول!! .
إذن وفي ثنايا هذه المقاربة الاستراتيجية في تحليل الدائرة الثانية نجد أن الموقف بالكلية يأخذ مسار الاقتراب التدريجي من مصالح الجيش السوداني لأسباب غاية في الموضوعية.. فتركيا لن تنسى علاقاتها التاريخية مع سلطنة دارفور ولا دورها في مد السلطان على دينار بالسلاح في ١٩١٦ عبر ليبيا في حربه ضد الإنجليز في السودان وهاهي الآن تدعم أحفاده في معركتهم الوجودية مع الجنحويد الذين تدعمهم الدويلة التي دعمت الانقلاب ضد النظام الديمقراطي في تركيا في العام ٢٠١٦.بخصوص قطر فهي لن تنسى أن تدخٌل الدويلة في دارفور عبر احتواء مليشيا الدعم السريع كانت إحدى أهدافه تخريب الجهد القطري، قطر التي أهدرت موارداً ووقتا وحبرا وجهداً لا يقدر بثمن لصناعة وثيقة الدوحة لسلام دارفور (Doha document for darfur peace) وهو الجهد الذي راح إدراج الرياح بعد مؤامرة الدويلة في السودان. ليبيا طرابلس لن تنسى دعم السودان لثورتهم ضد القذافي ووقوفه مع الشعب الليبي في تلك المحنة إلى الانتصار. ورغم أن بلد المليون شهيد له ما له من المرارات جراء مؤامرات الدويلة لتأجيج الوضع هناك، ولكن إن نسي الجزائريون فلن ينسوا قوافل السلاح والدعم التي كانت تصلهم عبر الصحراء من السودان في جهادهم ضد الاحتلال الفرنسي. السعوديون متنازعون بخصوص موقفهم ومصالحهم في هذه الحرب ويضعون أياديهم على قلوبهم جراء فقدان المدد البشري من الجند إن انتصر الجيش السوداني، لكن من يد تعاني علاقاتهم مع الدويلة ارتفاعا متسارعا في درجة التوتر نتيجة تزايد طموحات الدويلة محليا وإقليميا ودوليا على حساب المملكة التي اجترحت رؤية ٢٠٣٠ لريادة المنطقة وهو هدف يعيقه الآن تضخم الطموحات الآماراتية المتزايدة التي وصلت درجة الصراع العلني في كل من اليمن وبعض الجزر في الخليج. السعودية لن تسعد البتة إن سيطرت الدويلة على السودان عبر آل دقلو، فمصالح السعودية في السودان في غاية الأهمية الاستراتيجية بما لا يمكن تركها نهباً لغرماء غاية في الفسالة كالإماراتيين. أما إيران فلقد وجدت ضالتها لرد الصاع صواعٌ وصواع وهي التي لدغت من كلا الطرفين الخليجيين أبان حرب اليمن وها هي تهتبل الفرصة بدعم سخي للجيش السوداني مكنها من تحييده في معركة البحر الأحمر وتريد المزيد. إذن أن الجيش السوداني قد استطاع كسب رهانه في الدائرة الإقليمية وهو كسب مكنه من الحسم التدريجي لتمرد الجنحويد وكسر مؤامرة الدويلة. لقد استطاع الجيش احتواء أضرار الدائرة الأولى التي سببتها كل من تشاد وأفريقيا الوسطى وليبيا حفتر عبر الدائرة الثانية (الدائرة الإقليمية) وهو ما ارتقى بأداء قواتنا المسلحة وهي تقف اليوم على حافة الانتصار الحاسم على الدويلة والجنحويد. في الحلقة القادمة نختم بمقاربتنا للدائرة الثالثة (روسيا وأمريكا والصين والاتحاد الاروبي) لنكمل لوحة هذا العمل ولله المثل الأعلى.