يناير 13, 2025

المشروع العمسيبي.. خمر قديمة في قناني جديدة!!. (٥-٥) صهيب حامد

Spread the love

المشروع العمسيبي.. خمر قديمة في قناني جديدة!!. (٥-٥)

 

صهيب حامد

 

وأخيرا في ختام هذه الحلقات نود أولا الإشارة للحالة المزدوجة التي تعيشها مصر بخصوص علاقتها بهذا المخطط. حقا فإن إنشاء كيان نوبي في الحيز من شمال الشلال الأول وإلي الشلال السادس سوف يخصم أكثر من ثلث مساحة مصر وهو ما سوف يضعفها إلى ضعفها جراء قيام سد النهضة ، فالسد العالي نفسه يقع في الحيز النوبي لمصر وهذا ما يعني حرفيا قيام قيامة مصر ونهايتها كدولة وكيان سياسي. فأحد الأهداف الأساسية لهذا المخطط هو أضعاف مصر لصالح التمدد الإسرائيلي الى النيل في شمال حيز الدولة النوبية المقترحة لتحقيق الهدف الإستراتيجي لإسرائيل (من الفرات إلى النيل).ولحسن حظها فإن مصر تدين في إستقرارها ونظاميتها لإمتلاكها رؤية إستراتيجية بخصوص وضعها الجيوبوليتيكي وعناصر القوة والهشاشة، لذا فهي تعي أهمية السودان كمفتاح للتحكم بمصيرها وهو ما يجعلها تحرص على التأثير علينا بما يضمن مصالحها الإستراتيجية. ولكن بالمقابل فلقد أدى ذلك لإضعاف رؤية السودان لمصيره لكونه ولزمن طويل كان مستلحقا بالرؤية الإستراتيجية المصرية. أي ظللنا كسودانيين ننظر لأنفسنا في المرآة المصرية وهو ما أدى بنا لدفع ثمن غال في الآونة الأخيرة بعد أن ضعفت قدرة مصر على حماية مصالحها دع عنك أن تدافع عن مصالح السودان كأولوية وما اتفاقية عنتيبي وسد النهضة الا مثالا لذلك. إذن نحن اليوم قبل الغد يجب أن نتجاوز إشكالنا البنيوي بخصوص علاقتنا بمصر. فكما أوضحنا أعلاه فلقد ظل السودان ومنذ الغزو التركي منتزعا لصالح أنساق أدنى النهر وهو ما أسماه استاذنا محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه (السودان.. المأزق التاريخي وآفاق المستقبل) بالنزوع المتوسطي لبنية الدولة والمجتمع في السودان النيلي.يقول د. محمود الزين “أن أكبر خسارة مُنِى بها السودانيون هى إنتزاع ممالكهم من أنساق الحزام السودانى (Sudanic Belt) السياسية والثقافية والإجتماعية ودمجها فى محور النيل الجيوسياسى (geopolitical). هذه الخسارة تتمثل من جهة فى أن أدنى النهر الذى أُدمج فيه السودان هو الأقوى سياسياً وعسكرياً (وهذا يتسبب فى فقدان الندية المفضية إلى شراكة غير متوترة) والأهم من ذلك كله أن أدنى النهر هذا مطبوع ومنتج تاريخياً ضمن ذاكرة الاستبداد الشرقى وهى تجربة لا تتعاطى مع “ديموقراطية الرعاة” التى يعيشها السودانيون فى كونفدرالياتهم. من جهة أخرى فإن هذا المحور أيضاً إرتبط بالأطماع الدولية المرتبطة هى أيضاً بالأهمية الإقليمية لمصر“. واصل د. الزين مستطردا “وهكذا صارت مصر ترى فى السودان إما مستعمرة أو دولة يجب أن تكون تابعة وترتب على ذلك وجوب أن تحكمها أنظمة مركزية لاتسمح بما يفهم منه أنه مهدد لأمن مصر“.

 

وهكذا كانت الأنظمة الفكرية

والإستراتيجية للنخبة في السودان (وهي دوما منذ الإستقلال نخبة عروبية) ذات نزوع متوسطي منتجة ضمن فعالية يقعون هم على تخومها. مثلا فإن نشأة الطريقة الختمية في السودان أتت كحوجة إستعمارية فرضها تفكير محمد علي باشا في غزو السودان. فلقد كان محمد عثمان الميرغني الختم الكبير في غاية الإمتنان للأتراك الذين أنقذوا الحركة الصوفية بالحجاز من بطش الحركة الوهابية حيث كان الميرغني احد أقطاب التصوف هناك إلى جانب السنوسي والإدريسي. وهكذا أتى الميرغني الكبير للسودان في ١٨١٧ كإستجابة فورية حين طلب منه إبراهيم باشا إبن محمد علي باشا ووكيله في الحجاز القدوم للسودان لتهيئة المجتمع السوداني للحكم التركي الذي حدث بعدها بثلاث سنوات في ١٨٢٠م. ذلك عين ما حدث بخصوص نشأة الحركة الشيوعية السودانية (حستو) وقد إنتقلت أيضا من مصر وكان تنظيمها يتبع عضويا للتنظيم المصري (حدتو) ، وكذلك نشأت الحركة الإسلامية في السودان كفرع لحركة الإخوان المسلمين بمصر.لذا نجد أن القوى المهيمنة على مركز الدولة العروبي في السودان غير مهيئة لإنتاج الإستراتيجيات بل مطبوعة على إتقان وإجادة التكتيكات وخوض المعارك القصيرة التي يربحونها في المدى القصير ويخسرونها في المدى المتوسط والطويل اي متلازمة حزب الاشقاء.. براعة في التكتيكات الانتخابية دون لافتة فكرية أو رؤية سياسية وهو ما جعلهم يذبحون حزبهم فيما بعد (الوطني الاتحادي) على أعتاب التماهي في الختمية التي طالما حاربتهم وإستخذتهم. ذلك عين ما حدث بخصوص الجنوب حيث أدى إتفاق نيفاشا لإنفصال الجنوب وخروج عائدات بتروله من الميزانية مما أدى لسقوط (الإنقاذ). للطرافة والإنقاذ تتهيأ ممنية نفسها بالمكافئة نظير تخليها عن الجنوب إذا بالنار تشتعل في جلبابها بدارفور!!!!. إذن ومقابل اي معادل استراتيجي تخليت عن موردك الاستراتيجي (البترول) يا أخا العرب!!!!!!. وليس ذلك آخرا.. بل أخيرا خرجت الإنقاذ عن وسطها الإقليمي الطبيعي (تركيا وقطر وإيران) إلى الوسط المعادي (المحور الخليجي) الذي منحته قوتها الأعتي (الدعم السريع) ، وقد دفع هذا المحور ثمنا واحدا لخدمتين.. من يد وظّف هذه القوات لدرء الخطر الحوثي وبنفس الثمن مسقطا العدو الإسلامي السوداني الغشيم!!!!.

 

قبل أن نختم هذه السلسلة نود أن ننوه بأن سياسية الممارسة في السودان وإي مكان لا تنفصل من سوسيولوجيتها (بعدها الإجتماعي) وأن فهم الأحداث في سياقها السياسي فحسب هو إختزال لكيفية رؤيتنا لواقعنا. مثلا ما الحماسة التي كانت تركب الأستاذ وجدي صالح حين كان ينتصب أمام كاميرات التلفزة كي يعلن فخورا إلحاقه أكبر الأذى بخصومه الإسلاميين!!؟. فهل يمكن الفصل ها هنا بين وجدي السياسي ووجدي النوبي!!؟.. كذلك موقف الأستاذ كمال عمر المحامي وهو يجر حزبه (المؤتمر الشعبي) لخانة (الإطاري) ومعه أمين حزبه بالإنابة (بدر الدين) فهل تنفصل هنا سياسية موقفهم عن سيوسبولجيته!!؟. وهل ينفصل موقف د. حمدوك السياسي بتماهيه مع تأثيرات علاقات زوجته ذات الأصول النوبية وما إذا كانت هذه العلاقة هي التي أضاءت موقع ثقب أنفه الذي ربطوا فيه خطامهم السياسي!!؟. وبالطبع انا لا أود حرق كامل (الجينوم) السياسي السوداني ووصمه بالبلاهة لإنجراره لأجندات غير سياسية باسم الممارسة السياسية وهم غافلون، ولكن فلنديم النظر فيما حدث علّه يلهمنا ما لم نكن نحط به علما. إن مدخل التحليل المزدوج هذا (Interdisciplinary Approach) هو الذي فتح أبصارنا في ثنايا هذا التحليل للوصول إلى (عضم) الكثير من المعلومات والمصادر الأولية (Primary Data ) التي أنارت تحليلنا حول المشروع العمسيبي الذي يتم توظيفه اليوم كحصان طروادة ضد أهله وهو ينظرون!!!. سوف يستفيض الكاتب في هذا المبحث – سوسيولوجيا الممارسة السياسية- في السلسلة القادمة (آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟) والتي سوف تأتي تباعا بعد هذه السلسلة بإذن الله. إنّ المعرفة والقوة متلازمتان، فالمعرفة هي قوة في حد ذاتها ومن يمتلكها يجعل خصومه في حكم العرايا حرفيا فيعلم بها موقع ثقب الأنف الذي يعلق به فتيلة الإسترقاق حتما مقضيا ولله في خلقة شئون. انتهى.