يناير 10, 2025

السودان – أخبار الساعة: البقرة المسحورة.. من أجندة السياسة والإحتراب إلى أجندة السلم الاجتماعي والاقتصاد.. (٤-٥) صهيب حامد

Spread the love

السودان – أخبار الساعة:

صهيب حامد

إذن وكما أسهبنا في الحلقات السابقة في عرض إشكاليات حزامنا الرعوي الذي تم اختطافه، فإننا وبصدد اجتراح الحلول يتوجب علينا التعامل مع ثلاثة أطقم من الإشكاليات..اولا إشكال طبيعة مركزية السلطة في السودان ومصالحها السياسية والأيديولوجية والتي بتفضيلاتها أخلّت بالتوازن السياسي والاجتماعي بين العنصر العربي والأفريقي في بلادنا، ثم ثانيا إشكاليات التغير المناخي التي اخلّت بعلاقات الرعاة والمزارعين كمجموعات سبل كسب عيش (livelihood groups), ثم اخيرا أولوية تخطيط سياسات القطاع الرعوي في السودان.
حسنا.. بخصوص الإشكالية الأولى المتعلقة بطبيعة مركز السلطة السياسية و الأيديولوجية في بلادنا إذ لا مناص لنا في عقابيل هذه الحرب سوى بناء الدولة السودانية القادمة على قواعد الوطنية السودانية كآيديولوجية لا يمكن اختراقها كما إخترق المركز الخليجي مجموعات حواضننا الرعوية عبر نفس آيديولوجية الدولة السودانية (آيديولوجية المركز العروبي) وهو الأمر الذي تجلى بشكل سافر إبان هذه الحرب وما قبلها. فإننا من هنا فصاعدا لسنا عربا الا بقدر عروبة لا تتجاوز سودانيتنا التي عجمت اعوادنا مع الأجناس السودانية الأصيلة فمنحتنا هذه السمرة الباذخة التي نبذ بها العالمين. ونحن لسنا أفارقة الا بقدر أفريقية لا تتجاوز سودانيتنا، فسودانيتنا هي التي تنتصب عمودا لعروبتنا أو افريقيتنا ولا قيمة لنا دونها، سودانيتنا هي الأيديولوجية التي ننحاز إليها وَنتسمي بها ونفخر بالانتماء إليها ونطظ بها أصبعنا في أعين العالمين، فهي أعز من فسالة عروبية لا ترى فينا سوى ذهبنا أو أراضينا الزراعية أو موانئنا أو مياهنا أو موقعنا الاستراتيجي، عروبة باردة الأكتاف فهي حين تربت على كتفنا إنما ترتب على ذهبنا، وحين تبتسم لنا إنما تبتسم لحفنة موانئنا على البحر الأحمر، تبتسم لموقفنا السياسي المواتي لمصالحها المشتراة بالدراهم والريالات، وَنحن الذين بذلنا دمنا لتوفير دمهم ومنحنا ارواح جنودنا فداءا لأرواح جنودهم. ولكن ماذا منحونا بالمقابل؟!!.. لقد منحونا القتل والدم والدموع.. منحونا التشريد من منازلنا واغتصاب حرائرنا ونهب أموالنا، لقد منحوا نصفنا المال والسلاح والقنابل كي يقتل نصفنا الآخر ليخلو لهم وجه مواردنا !!!!..منحونا التفرج والمنظرة على فاجعتنا ونحن الذين تولينا فاجعتهم فتثكلت أمهاتنا وترملت نساؤنا وتيتم أبناؤنا.. يا للفسالة. ذلك ما جنيناه من العروبة..بئس العروبة!!. فنحن كسودانيين حتى عروبتنا لهي عروبة سودانية وليسها عروبة العرب. يا للعرب؟؟. إنني اليوم لأجد نفسي أشد فخرا من أي وقت مضى بمقولة احد أبطال بلادي د. جون قرنق ديمبيور الذي رشحت دماوه في سفوح جبال الأماتونج من أجل سودان واحد حين قال مقولته العبقرية الفذة والتي سيظل التاريخ يردد صداها إلى ابد الآبدين، ولا ادري اي وحي قد تنزل على بطلنا في ذلك اليوم ولكني على يقين أنه من انواع الوحي الذي انا على استعداد للإيمان بها دون تردد.. العروبة لا توحدنا لأننا ليسو جميعنا عرب.. وكذلك الأفريقية لا توحدنا لأننا ليسو جميعنا نعترف بأننا أفارقة. أيضا الإسلام لا يوحدنا لأننا ليسو جميعنا مسلمين.. ولا المسيحية توحدنا لأننا ليسو جميعنا مسيحيين.. ولكن السودانيوية( Sudanism unites us) توحدنا لأننا جميعنا نعترف بأننا سودانيون. يا لتسعة عشر السنين التي اضعناها منذ إطلاقك هذه المقولة ونحن نجري َوراء سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.. إنها لمقولة يمكنها أن تحتل مكانها كآية (verse) في أي كتاب مقدس دون أن تحس انها قد اخلّت باطراده!!.
إن أهم أولوية وطنية لنا أنه وفي صبيحة اليوم الثاني لوقف هذه الحرب يتوجب علينا تفكيك كل آثار الآيديولوجيا السابقة للدولة السودانية القائمة على المركزية العروبية والتي على قاعدتها تشكل التحالف العروبي العريض الذي قامت عليه أركان الدولة السودانية منذ الاستقلال والي صبيحة يوم الحرب التي كانت إعلانا بفسخ هذا العقد بإنحياز احد أطرافه للأجنبي (المركز الخليجي) الطامع في ابتلاع بلادنا بإسم العروبة!!!! .. وكما اسلفنا فلقد استطاع هذا المركز الخليجي الذي يعد نفسه أكثر عروبة بمعيار النقاء العرقي من المركز العروبي السوداني ،اقول استطاع استمالة احد أطراف تحالف المركز العروبي السوداني واخترق به أيديولوجيتنا الحاكمة منذ الاستقلال، كي نعلم مدى هشاشة اختيارنا الذي لم يمتحن الا الآن فسقط في الامتحان. إذن أن اختيارنا القادم يجب أن يكون اختيارا غير قابل للاختراق. إن خيار بناء الوطن على قاعدة الوطنية السودانية لهو اختيار غير قابل للاختراق إذ لا يوجد من هو أكثر سودانية منك انت بالذات القاطن بين همشكوريب إلى الجنينة ومن حلفا إلى جودة لأننا في هذا الفضاء سودانيون على السوية ولا أحد في هذا العالم خارج هذا الفضاء يمكنه إقناعي أنا بأنه أكثر سودانية منك كي أخونك أو اغتصب زوجتك أو اختك أو إبنتك أو استرخص روحك، الأمر الذي حدث ََ في ١٥ أبريل ٢٠٢٣م.يجب أن نعلم أن حربنا َ لن تنهي فقط بأنتصار الجيش على الجنحويد ولكن تنتهي بتشييعنا للمركزيات الأيديولوجية القابلة للاختراق إلى مقبرة التاريخ.
وكذلك لن ينتصر جيشنا على الجنحويد إلا بإنفكاك حزامنا الرعوي عن الممتد الرعوي القاري على طول حزام الساحل الأفريقي إلى المحيط الأطلنطي حتى لا يأتنا مرة اخري عربي شتات لا قيمة له من تشاد أو النيجر أو مالي متهما اياي بأني فلول أو ٥٦ نيست (56nist) . وكذلك لن ينتصر جيشنا على الجنحويد الا بتصميم استراتيجية للتعليم في بلادنا قائمة على قواعد الوطنية السودانية قادرة على افتكاك طفلنا من هذه البقرة المسحورة وجعله يستريح وتستريح هي بالذات، استراتيجية قادرة على تذويب ناشئة السودان بوجه عام وناشئة الحزام الرعوي على وجه الخصوص فيها معلية من شأن رابطتنا كسودانيين وكسودانيين فقط.هذه الإستراتيجية يجب أن لا يقل مداها عن ٢٠ عاما يخرج بعدها هذا الناشئ رجلا ينتصب على قوام وطنيته السودانية لا ينخدع لأي دعاية خارجها تجعله يشهر بندقيته على بني وطنه من أجل حفنة من الدراهم أو الريالات. بالطبع لا تتاسس مثل هذه الاستراتيجية الا على قاعدة الاستفرار، ولن يستقر هذا الطفل الا اذا استقرت بقرته وهو ما سوف ندلف إليه بعد قليل. إن فصل الطفل من البقرة لهو أولوية تربوية عاجلة لأن الطبيعة الرعوية المفتوحة تغذي الميل العدواني والغريزة العنفية لدى الرعاة وهو أمر ناتج عن الاستجابة للإحتياجات الحيوية للقطيع عبر الإستشعار المتعدد (multisensory) واللغة الحسية المضمرة (embodied language) وهو ما يؤدي بهم اي الرعاة للانسجام والتأثر التدريجي بسلوكية القطيع مما يورث النمط العنفي العدواني بعكس النمط السلمي للمزارعين المستقرين.إن الطبيعة الخطرة لمهنة الرعي المفتوح ترفع حاسة الرعاة تجاه المخاطر لذا فإن أهم آلية لمواجهتها هي زيادة والاهتمام بالأواصر بين مجموعات الرعاة وهو ما يجعلها جاهزة للتجييش والتوظيف العسكري أو السياسي لمن يمتلك الوفورات لمقابلة ذلك. إذن تلك هي وصفتنا لمقاربة الإشكالية الأولى المتعلقة بتجاوز أيديولوجية المركز العروبي في السودان.. نواصل.

.