يناير 10, 2025

نظرية الدوائر الثلاث.. مقاربة استراتيجية لحربنا مع الجنجويد (٣-٣).. صهيب حامد

Spread the love

صهيب حامد

وَكما أسلفنا في ثنايا تحليلنا للدائرة الثانية في الحلقة السابقة مثبتين عزلة الجنجويد والدويلة في هذه الدائرة وبوار مشروعها وبروز إرادة إقليمية كبيرة لإجهاض مؤامرتها في السودان، نشرع اليوم في خاتمة هذه السلسلة لَمقاربة موقف الدائرة العالمية (Global cycle) وهي الدائرة ذات الخصوصية المتعاظمة والتي تتضمن روسيا والولايات المتحدة الأمريكية والصين وأروبا. بالطبع فإن السودان دولة ذات أهمية كبيرة فهي تملك ساحل بطول ما يزيد عن ٨٠٠كيلو متر على البحر الأحمر إلى جانب أنه يؤثر بشكل كبير على القرن الأفريقي ويقع في امتداد دول الساحل (السنغال وموريتانيا ومالي والنيجر وتشاد والسودان وإثيوبيا وجيبوتي)، كذلك فالسودان يجري فيه ٧٠٪ من حوض النيل النهر الأطول في العالم وبه ما لا يقل عن ٢٠٠ مليون فدان صالحة للزراعة. كذلك يعد السودان ثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا بعد جنوب أفريقيا وغانا،بإنتاج يبلغ ١٠٠ طن في العام ويحوي مخزون واعد من اليورانيوم والنحاس والحديد وكثير من العناصر الأرضية النادرة، إلى جانب أنه لم يزل يدخر بإنتاج نفطي يمكن أن يتعاظم أن توفرت الظروف المواتية للاستثمار.
إذن فالسودان ََمحط أنظار ومحل صراع استراتيجي كبير، ولكن مع ارتفاع وتيرة التوتر الإقليمي تلوح في الأفق اليوم نذر حرب إقليمية بين كل من إيران وإسرائيل بسبب الدعم الإيراني المتعاظم لقوي المقاومة في كل من فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن. وكلما إرتفعت وتيرة هذا الصراع كلما زادت احتمالات تدخل الدول العظمى في الصراع.. روسيا إلى جانب إيران والولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل. والمؤكد فإن مسرح هذا الصراع القادم هو البحر الأحمر. وكما يؤكد التاريخ فإن حلم روسيا بولوج المياه الدافئة قديم منذ عهد بطرس الأكبر، فروسيا تمثل سدس اليابسة (١٧.٥ مليون ك مربع) ولكنها محاطة بالجليد من كل جانب ولا تجد موطئ قدم في البحر الذي في حضنها (البحر الاسود). في العام ٢٠١٤ ضمت روسيا شبه جزيرة القرم ومدينة سباستيبول لتطل على أول مياه دافئة لها في البحر الأسود. لقد كانت الحرب السورية فرصة ذهبية أخرى للبحرية الروسية لإقامة قاعدة طرطوس على البحر الأبيض المتوسط وهي إضافة استراتيجية عظمى ولكنها منقوصة إن لم تجد إطلالة بحرية علي العالم الاندوباسيفيكي والأطلنطي. وبالمقابل فنجد أن أمريكا تسيطر على بحار العالم التي يمكن اعتبارها أمريكية بامتياز. تعتمد الاستراتيجية البحرية الأمريكية على السيطرة على المضائق (Chokepoints) وذلك بإقامة قاعدة عسكرية لدى نقطة الصفر قرب المضيق مع إقامة قاعدة طائرات ضخمة في نقطة المحيط. مثلا بخصوص باب المندب فلدي أمريكا قاعدة سان لومير في جيبوتي وقاعدة طيران بجزيرة خوسيه جارسيا في نقطة المحيط بٌعيد الساحل الكيني. كذلك بخصوص مضيق جبل طارق تقع القاعدة العسكرية بالجبل نفسه وقاعدة طيران بجزر الاوزرس التي تعد الأكبر في العالم. بخصوص مضيق (ملقا) الذي تمر به ربع التجارة العالمية فتقع القاعدة بمطار شانغي بسنغافورة وتقع قاعدة الطيران في نقطة المحيط في الرأس الشمالي للساحل الأسترالي. وهذا هو الشأن في باقي المضايق بكل من بنما وهرمز وتايوان التي أطلق عليها دوغلاس ماك آرثر حاملة الطائرات الأمريكية التي لا يمكن إغراقهابينما تقبع في نقطة ما في محيط الجزيرة (جزيرة اوكيناوا اليابانية) قاعدة الطيران الأكبر في المنطقة. ومع هذا الانتشار البحري الكبير لم تزل روسيا قزما بحريا تمنى نفسها بالإطلالة لتوها علي البحر الأحمر كمنطقة لوجستية للسفن المارة من وإلى المحيط الهندي. لقد منح الرئيس السابق عمر البشير الروس امتياز إقامة قاعدة روسية علي البحر الأحمر ببورتسودان. ولكنه سقط قبل التوقيع على الاتفاق فتم التلاعب بالطلب بعد الثورة نزولا لرغبة أماراتية. بعد التوتر الكبير بين الجيش والدعم السريع ما بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر أبرز الجيش ملف القاعدة الروسية للضغط على الإماراتيين للابتعاد عن الدعم السريع. ومرة أخرى برز الملف بقوة بعد الحرب برغبة الطرفين حيث أراد الجيش استخدامه ككرت كاسب (Trump card) للضغط على الروس لتزويد الجيش بالسلاح الكفيل بتغيير موازين المعركة. صحيح أن ملف القاعدة العسكرية في غاية الأهمية الاستراتيجية ولكن من يد أخرى فللروس علاقات غاية في الأهمية مع الإماراتيين في هذا المنعطف التاريخي. الإمارات هي طفل غاية في الدلال بالنسبة لأمريكا وإسرائيل، ، الطفل الفاسد وبرغم ذلك يسرف والديه في إرضاءه. فالامارات رغم العقوبات الغربية على روسيا فهي تتعامل مع الدب الروسي أسفل الطاولة. لقد سمحت دبي بإيجاد ملاذ آمن لاموال الاوليغاركية الروسية بدبي. كذلك وبتحول مركز الاوليغاركية لدبي نشطت هذه الأخيرة كمركز لبيع الغاز والنفط الروسي رغم العقوبات الغربية بالدرهم الإماراتي لعديد دول العالم بما في ذلك الهند. كذلك نشطت الإمارات كمركز لتهريب الرقائق الإلكترونية لروسيا بعد منعها من قبل أمريكا للضغط على صناعة السلاح الروسي المتقدمة التي تعتمد على رقائق النانو الرفيعة من تايوان وكوريا الجنوبية واليابان وبذا صارت دبي رأس جسر لتمريرها لروسيا. كذلك لا ننسى أن الإمارات هي عضو مهم جدا باوبك بلس ( +opec) الي جانب السعودية وروسيا كأهم ثلاثة أعضاء بالمنظمة التي تسيطر على نصف إنتاج النفط العالمي. إذن للإمارات كروت في غاية الأهمية للضغط على الروس للحيلولة دون دعم الجيش السوداني بشكل فعال. ولكن من يد فأن مصالح روسيا ليست محل مساومة. لقد حاول الروس التفاوض مع السودانيين حول هذا الملف دون اغضاب الإماراتيين ولكن يبدو أن السودانيين قد افهموهم أن الاستراتيجي مقابل الاستراتيجي ولا اتفاق أقل من ذلك.
وبينما التفاوض الروسي السوداني في اوجه إذا بالمصريين يقنعون إدارة بايدن بأن موقفا أمريكيا مرناً ومتعاطفا مع الجيش السوداني يمكنه أن يجعل السودانيين أكثر تشددا مع الروس ويؤخر الإتفاق. هنا قدمت الإدارة الأمريكية سبتاً ربيعيا بتفعيل إجراء تنفيذي يمهد لرفع العقوبات الاقتصادية عن السودان بشكل نهائي وتزويد الطيران السوداني بصواريخ k8 الحارقة ودقيقة التوجيه والتصويب (مررها المصريون للجيش السوداني) وأخيرا إنزال العقوبات الأمريكية الأشد على الشخصية المالية الأهم في الدعم السريع (القوني حمدان دقلو). لقد كان لهذه الإجراءات الأمريكية أثرا قاتلا على المليشيا التي خرج زعيمها حميدتي في خطابه الأخير معايرا وشاتماً ََواشنطن التي ورطته في الاتفاق الإطاري وهاهي تنحاز للفلول حسب خطابه. لقد كان العالم منتبها لهجوم ما قبل الخريف حيث اجتاح الدعم السريع سنجة وجبل موية والدندر والسوكي ،إذ كان متوقعا تطوير الهجوم شرقا وصولا للبحر الأحمر. ولكن يبدو أن الجيش السوداني استفاد من هدأة الخريف واستطاع أن يسيطر على كافة محاور العمليات مستعيدا جبل موية والدندر والسوكي وفارضا سيطرة كاملة على البطانة وكذلك مسيطرا على كافة المحاور بالعاصمة الخرطوم (عبور الكباري). وأما بدارفور فقد بسطت المشتركة سيطرتها على شمال وغرب دارفور وفكت الحصار عن الفاشر. لقد أبانت هذه التطورات بلا مواربة أن الطرف السوداني الأوحد الذي يملك كرت البحر الأحمر هو الجيش السوداني والجيش السوداني فقط ومن يملك الكرت الاستراتيجي يربح في هذه الدائرة. في هذا المضمار يحاول الروس إبراز فوائدهم للجيش (مدوا الجيش بجزء من عتاد حسم المعارك الاخيرة) بينما يزاود الأمريكان في البيعة مقابل تنازلات تزيد تشدد الجيش مع الروس وتؤخر الاتفاق ، وطالما أن الجيش قد أمّن تماما الشرق وفي طريقه لاستلام كل من سنار والجزيرة وولاية الخرطوم نظيفة بلا جنجويد، إذن فليس أمام الروس والأمريكان سوى الركوع حفاة في محراب جيشنا العظيم لأن بسطام هذه الحرب ليس شيئا سوى البحر الأحمر ومن أراد البحر (الجيش السوداني) أستقل السواقيا (الجنجويد) . أما بخصوص كل من الصين وأوربا فهما ليسو ذوي اختصاص كبير بحرب السودان. فالصين رغم امتلاكها قاعدة عسكرية بجيبوتي على مرمى حجر من القاعدة الأمريكية بسان لومير ولكن لا يشكل لها البحر الأحمر مركز إهتمام كبير فامدادات النفط الصينية ترتكز في الخليج الذي يمد البر الصيني بربع انتاجه وكذلك روسيا التي إتجه انبوبها النفطي الأساسي صوب الصين بعد إغلاق نوردستريم ١ ونورد ستريم ٢ المتجه لاروبا بعد الحرب الأوكرانية. الأن فإن خطوط قوة سيبيريا ١ قوة سيبيريا ٢ و سخالين يغطون جزءا معتبرا من الطلب الصيني، كذلك فكل من كازاخستان وتركمانستان تغطي الباقي دون أن تحتاج الصين للبحر الأحمر في استراتيجية الطاقة مثل الولايات المتحدة واروبا. أروبا بالطبع تعتمد على الولايات المتحدة بالكامل في تأمين خطوط إمداد الطاقة عبر البحر الأحمر وليست لها استراتيجية مستقلة عنها. صحيح أن فرنسا وبريطانيا يمالئان الإمارات في حرب السودان ولكن لاعتبارات تخص الاستثمارات الإماراتية في كلا البلدين (القائمة والقادمة)، ولكن فرنسا تزيد ذلك كيل بعير لاعتبارات تخص سياساتها في دول الساحل خصوصا في تشاد فهي تساند محمد كاكا في توجهه بالتعاون مع الإمارات لدعم الجنجويد في حربهم بالسودان. ولكن في نهاية يومها فإن أروبا لا مناص لها سوى الرضوخ للاستراتيجية الأمريكي في هذه الحرب خصوصا إن استهدفت هذه الاستراتيجية محاربة التواجد الروسي في البحر الأحمر فحرب أروبا اليوم هي بالاساس مع دولة الاتحاد الروسي في أي زمان وأي مكان..انتهى.