يناير 10, 2025

السودان – أخبار الساعة :البقرة المسحورة.. من أجندة السياسة والاحتراب إلى أجندة السلم الإجتماعي والاقتصاد.. (٢-٥) صهيب حامد

Spread the love

السودان – أخبار الساعة :

صهيب حامد

إذن تجلو لنا فزلكة الحلقة السابقة كيف انتقل ولاء حاضنة الحزام الرعوي ممثلة في مناديبها الجدد (الدعم السريع) من المركز العروبي في السودان إلى المركز العروبي الجديد (المركز الخليجي) وبذا انفكت أو قل تفتتت عرى التحالف العروبي الذي َسوغته أيديولوجية المركز العروبي في السودان منذ ما قبل الاستقلال. لقد استطاع المركز الخليجي أن يفك شفرة التحالف العروبي في السودان ويضرب نظامه بفيروس ابطل مفعوله ملحقا الحليف العروبي الرعوي بتحالف جديد أكثر أصالة في الانتماء العروبي من المركز العروبي السوداني!!! . ليس ذلك فحسب ولكن بخبث منقطع النظير ألحق المركز الخليجي الحليف الرعوي السوداني بالممتد الرعوي بدول الساحل الأفريقي ومن ثم ربط هذا الممتد الرعوي الكلي به وأخذ في استخدام كل هذه الديقلوشيا (Deglosia) لإسقاط الدولة السودانية التي عرفناها منذ الاستقلال (دولة ٥٦ على قولهم) لصالح تحالف عروبي جديد يمثل الممتد الرعوي العابر للحدود الوطنية في السودان . ويا للطرافة فلقد حل المركز الخليجي محل المركز العروبي السوداني في نظرية للحلول أكثر تعقيدا وغرابة من نظرية الحلول لدى المعتزلة!!!!. لقد إرتكبت الإنقاذ الموبقات الثلاث والتي دفعت هي ثمنها بسقوطها الشنيع ثم أودت بنا إلى ما نحن فيه الآن، الموبقة الأولى أنها جيشت عرقيا وعنصريا حزامنا الرعوي على غير قوام رؤية وطنية صميمة، ذلك اولا ثم ثانيا سخرت هذه القوة لصالح مركز غير وطني للعمل كمرتزقة للبطش بشعب آخر لم يضر بمصالحنا القومية في يوم من الأيام ، اما الجريرة الثالثة فهي منح إمرة هذه القوة لهذا المركز بالكلية لتوظيفها لتحقيق مصالحه القومية هو بالذات خارج هدفها الأول (الحرب في اليمن) وبذا تبدلت أهداف هذه القوة وفق استراتيجية المركز الجديد. تارة تقاتل مع حفتر ثم في استدارة نفس اليوم تجد نفسها في اليمن الجنوبي دون التقيد بالعقيدة الوطنية ولا مصالح الدولة السودانية ، متقيدة فقط بعقيدة المال ، وهكذا كي تقاتل ضد مؤسسها نفسه (الإنقاذ) وتسقطه ولا غضاضة في ذلك ما دامت تلك هي رغبة المركز صاحب الوفورات الاقتصادية الأوفر، ثم اخيرا كي تقاتل لإسقاط الوطن نفسه إبتداءا من ١٥ أبريل ٢٠٢٣م وهي حرب لم تترك طوبة على اختها هدفها القضاء على الأخضر واليابس في بلادنا كدرس سوف يتأبد في ذاكرتنا القومية إلى يوم النشور.. يا للمأساة يا للسقوط يا للفشل!!!!!.
لم يكن ذلك هو مبتدأ أخطاء الإنقاذ التي لم يكن كاتب هذا المقال في يوم من الأيام أحد اعدائها وإن لم يكن كذلك جزءا منها إلى سقوطها، ولكن ان لم نفتح الجرح الذي سببته للوطن ونسبر حجمه فليس ممكنا وصف العلاج ومن ثم إرتقاء سفر الخروج.
لقد اعتري أداء الإنقاذ خصوصا في عشريتها الأخيرة قدرا من التهاون غير مسبوق. فلقد سمحت السلطات المأذونة في بلادنا في العام ٢٠١٠ لبعض الجهات البحثية والأكاديمية الأمريكية والبريطانية بالقيام باضخم مشروع لجمع قواعد بيانات بالحزام الرعوي في السودان مما يعد العمل الأضخم ليس في السودان أو أفريقيا بل في العالم قاطبة. لقد مر هذا العمل تحت ارجل الأجهزة الاستخبارية (جهاز الأمن والمخابرات) والفنية (ممثلة في وزارة الثروة الحيوانية والسمكية والغابات) ووزارة الشئون الإنسانية . لقد أجرت جامعة (تفتس) الأمريكية بمعاونة جامعة (ساوثامبتون) البريطانية مسحا حقليا استمر لأربع سنوات في ست ولايات سودانية هي الأهم لجهة امتلاك موارد الثروة الحيوانية. لقد تم خلال هذا العمل مسح ودراسة كافة أنشطة القطاع الرعوي بكل من كردفان ودارفور باستخدام منهج في البحث والمسح أسموه بمناهج البحث المبتكرة (Innovative approaches & methodologies). للغرابة فلقد سمحت السلطات السودانية لأول مرة لجهات أجنبية استخدام أجهزة تسمح بتتبع وتخريط مسارات الرعي بالأقمار الصناعية لجهات أجنبية وذلك بربط أجهزة GPS المتطورة جدا بإجسام الحيوانات (الابل والماشية والضأن) وربط كل ذلك بالمخدم الرئيسي (server) بمدينة بوسطن الأمريكية!!. لقد تم دراسة أثنى عشرة مسار في المرحلة الأولى، ستة بشرق دارفور وستة بشمال كردفان محليتي سودري والخوي وفيما بعد تم تخريط كافة مسارات الحيوان بكامل كردفان ودارفور. استهدفت الدراسات اولا تخريط المسارات الرئيسية والفرعية للحيوان ثم ثانيا دراسة أنماط التجارة في مجال الحيوان، وكذلك القيام بدراسة السياق الاقتصادي والاجتماعي للقطاع الرعوي، كذلك دراسة النظام الأهلي وآلية فض النزاعات التقليدية، إلى جانب دراسة تأثيرات التغير المناخي على نزاعات الرعاة والمزارعين وكذلك على الموارد الطبيعية.ثم أخيرا تتبع وتخريط المسار القومي التجاري الذي يربط مناطق الإنتاج بالسوق القومي بالخرطوم أو غيرها. وكما أسلفنا فلقد كانت الجهة البحثية لهذا العمل هي جامعة (تفتس) الأمريكية بالتعاون مع جامعة (ساوثمبتون) البريطانية. أما الممول فقد كان الوكالة البريطانية للتنمية لما وراء البحار (UKAID) والتي إستعانت ببرنامج الأمم المتحدة للبيئة في إدارة التمويل. كذلك فلقد تم الاستعانة ببعض المنظمات الوطنية لتنفيذ هذا العمل. لقد أنجزت جامعة (تفتس) في هذا السياق عديد الدراسات باللغة الإنجليزية التي لم تترجم للغة العربية إلى الآن. الدراسات الأهم التي تم إنجازها في هذا الصدد الأولى هي الثروة الواقفة (Standing wealth) وهي عن الماشية في دارفور وأهميتها الاقتصادية والاجتماعية، أما الدراسة الثانية فهي الرعوية المفتوحة كممارسة في السودان الحديث (Pastoralism in practice), والدراسة الثالثة سيرا على خف (On the Hoof) وهي دراسة عن تجارة وأسواق الماشية محليا بدارفور وإرتباطها بالسوق القومي. لقد كان الهدف الرئيس لكل هذا العمل هو الدفاع عن منهج الرعوية المفتوحة كأنسب منهج لإدارة القطاع الرعوي في السودان حتى في مقابل منهج الرعوية المستقرة( sedentary pastoralism) . للمفارقة لم تجهد جامعة (تفتس) نفسها لعرض اي دراسة مقارنة(Comparative study) لمعرفة كيف أن الرعوية المفتوحة هي الأنسب اقتصاديا فقط بقولهم أن دراسات سابقة ل(تفتس) وشركائها قد أثبتت أن الرعوية المفتوحة قد ساعدت الاقتصاد بتوفير عدة آلاف من الوظائف كما انعشت أسواق مهمة بتوفير منتجات الماشية وأكثر من ذلك، إلى جانب الأهمية البالغة لتجارة الماشية في دارفور(يا سلام!!! ؟). للغرابة فقد وقفت دراسات جامعة (تفتس) موقفا سلبيا من كل من اتفاقية أبوجا للسلام (DPA) ووثيقة الدوحة لسلام دارفور(DDPD) مقدمة انتقادا حادا لوصف الاتفاقيتين لمنهج الرعوية بدارفور كهوية رعوية تعبر عن إرث ثقافي اجتماعي (Pastoralism Identity )،حيث يتم الإصرار من قبل جامعة (تفتس) اعتبارها (اي الرعوية المفتوحة) نمط إنتاج ومنتقدة اتجاه الاتفاقيتين للتركيز على أهمية الانتقال من الكم إلى الكيف!!!! . تقول جامعة (تفتس) أن الاتفاقيتين قد حوتا تحيزا لصالح المزارعين على حساب الرعاة بتاكيدهما على وجوب الاهتمام بالزراعة المطرية (Rainfed agriculture) عبر تطوير طرق الزراعة وتوفير الحماية البيئية لعكس مسار التدهور البيئي دون ذكر اي مقترحات لتطوير نمط الرعوية المفتوحة في دارفور. والسؤال هنا ألم تولغ جامعة (تفتس) في شأن سياسي وخيار وطني مرتضى من السلطة القائمة لحل أشكال صراعي مزمن بشكل مفضوح وهي تنتقد اتفاقيات الدولة الرسمية لتأييد نمط معين لإدارة القطاع الرعوي حتى دون تقديم أي نموزج مقارن لإثبات أن الرعوية المفتوحة أكثر فائدة من نمط الرعوية المستقرة بينما تقع كل من جامعة (تفتس) وشريكتها جامعة (ساوثامبتون) في سهلين مفتوحين على رانشات للرعوية المستقرة يرفل أبناء مالكيها في الرفاهية لدرجة أن أبناء هؤلاء يقدمون المنح السنوية باسم آبائهم لجامعة (تفتس) نفسها أو مراكزها المعروفة مثل (مركز أبيشتين الدولي). والشئ بالشئ يذكر، فقطعا قد عكست مسوح ودراسات (تفتس) في دارفور وكردفان مدى البؤس الذي يغرق فيه أطفال هؤلاء الرعاة بلا تعليم أو غذاء جيد أو أي توقعات حياتية ، كذلك قطعا عكست مقدار الاختراقات التي سببها هذا النمط الرعوي للسلم الاجتماعي وكم الضحايا الذين ذهبوا سدى نتيجة هذه النزاعات. بالطبع لهو تهافت مريب وغريب ، ولكن الأغرب هو صمت حكومة السودان المريب آنذاك عن كل هذا التغول.. فإن كانت تعلم فتلك مصيبة وإن كانت لا تعلم فالمصيبة أعظم!!!!!. صحيح فقلد وجدت حكومة السودان آنذاك ضالتها في مركز علمي كجامعة (تفتس) يؤكد بالبراهين العلمية أهمية استمرار هذا النمط الرعوي الذي يؤدي لها مهاما سياسية وآيديولوجية غاية في الأهمية، ولكن من يد ألم يتساءل اباطرة السياسة في الإنقاذ الذين ملؤوا الدنيا وشغلوا الناس ما الذي يجعل الإنجليز والأمريكان معا ينفقون كل هذه الموارد في أمر بهذا القدر من الاستراتيجية بالنسبة لها!!!! ؟. ولكن يبدو فعلا أن غلطة الشاطر بالف ولله المثل الأعلى.. نواصل.