أبريل 19, 2025

البقرة المسحورة.. من أجندة السياسة والإحتراب إلى أجندة السلم الاجتماعي والاقتصاد.. (١-٥) صهيب حامد

Spread the love

البقرة المسحورة.. من أجندة السياسة والإحتراب إلى أجندة السلم الاجتماعي والاقتصاد.. (١-٥)

 

صهيب حامد

 

أعلن د. فيصل حسن إبراهيم وزير الثروة الحيوانية والسمكية والغابات في فبراير ٢٠١٣ بزهو أن وزارته قد حققت عائدات بلغت ٤٠٨ مليون دولار للعام ٢٠١٢ مقابل ٣٣٣ مليون دولار في العام ٢٠١١، ولا ادري هل أحس السيد الوزير السابق بأي ذرة من الخجل فيما بعد من هذا التصريح وهو رجل متخصص في مجال الثروة الحيوانية وقد كان يجلس على الكرسي الذي يخول له السيطرة على ٧٠ مليون رأس من الأبقار و١٥٠ مليون رأس من الضأن و ٢٥ مليون رأس من الإبل، وهو يعلم اي الوزير السابق من موقع تخصصه أن العائدات السنوية لشركة انكور النيوزيلندية من الألبان المجففة فقط كانت توازي العائدات التي ذكرها عشر مرات فضلا عن أن قطاع الألبان في هولندا فحسب يدر على الخزينة العامة ٥٥ مليار دولار وذلك مقابل مليون من الأبقار فحسب لا تزيد لاعتماد هولندا على التنمية الرأسية وليس ملء الأرض بالعويش وفق سياسات حكومة وزيرنا السابق الذي لم يجد ما يفاخر به سوى قفزة سنوية في إيرادات وزارته لا تتجاوز ٧٠ مليون دولار!!! . وبالطبع لا ذنب للوزير السابق في هذا الخلل البنيوي المستديم لعشرات السنين منذ الاستقلال ولكن أوردنا تصريحه لنقيس مدى المفارقة التي نعيشها في السودان ونحن نملك القطاع الرعوي الأضخم في العالم ويا للفجيعة لحمل ثقيل كهذا نحمله كسودانيين فوق ظهرونا ولم يحملنا في يوم من الأيام. هذه المادة في غاية الأهمية الاستراتيجية لتعلقها بجذور نشأة هذه الحرب الدائرة اليوم في بلادنا والتي ارتكست بنا اميالا وفراسخ بمعيار التاريخ ، فهذه الحرب قد أوقعت بنا الضرر الذي كنا نخافه ولكنها الآن صارت حتما مقضيا ولكن تبقى قدرتنا على استخراج العبر منها ذلك اولا ومن ثم الحرص كشعب ودولة على اجتثاث كامل جذورها حتى لا نبقى كآل البوربون لا ينسون شيئا ولا يتعلمون شيئا!! . قطعا فلقد تلاعبت قوى عديدة ببلادنا فتآمرت وخططت ثم نفذت هذه الحرب للسيطرة على موارد بلادنا وموقعها الاستراتيجي. لقد كان التلاعب بالحزام الرعوي في بلادنا هو رأس رمح هذه المؤامرة الدائرة اليوم ضد السودان وانسانه وموارده وارضه وموقعه الإستراتيجي. لقد أرادوا استغلال الحزام الرعوي وتوظيفه لصالح استراتيجية حربهم في بلادنا بشكل لم يسبق له مثيل في أي مكان في العالم فهم قاموا بدراسة هذا القطاع بشكل علمي َمستغلين في ذلك طقم كامل من الوسائل والأنظمة والموارد المادية والبشرية وهو ما مكَّنهم في لحظة الصفر من تحريكه بالجملة لصالح حربهم مما أحدث كل هذا الخراب المنهجي الذي لم يحدث من قبل في أي مكان في العالم ، وهو ما لا يدانيه في أحداث التاريخ الا ما فعله المغول والتتار الذين كنسوا في لحظة دجوحية كل الإرث الإنساني سئ الحظ الذي صادف طريقهم.

النظام الرعوي في السودان اعتمد نمط الرعوية المفتوحة (Pastoralism) منذ زمن طويل, ولقد كان مأمولا من الحكومات الوطنية المتعاقبة وضع سياسات جادة تنقل الحزام الرعوي من مربع الرعوية المفتوحة إلى نمط الرعوية المستقرة (Desentry pastoralism) حيث يبدو أن هناك أسباب أيديولوجية وسياسية أدت لاستمرار هذا النمط إلى اليوم وهو ما حرم الاقتصاد السوداني من عائدات ضخمة كان يمكنها أن تنقلنا إلى طبقة دول الرفاهية الزراعية مثلنا مثل هولندا وأستراليا ونيوزيلندا. لقد انتقلت الأحزمة الرعوية في العالم جميعا من نمط الرعوية المفتوحة إلى الرعوية المستقرة منذ زمن طويل عدا بعض الأحزمة الرعوية القليلة مثل حزام الاستبس الاوراسي(كازاخستان تركمانستان وأوزبكستان وطاجكستان وغرغيزستان) وحزام هضبة التبت بآسيا وحزام بتغوينا والبمبس بأمريكا الجنوبية إلى جانب بعض الدول الأفريقية منها السودان. إن أهم أسباب استمرار نمط الرعوية المفتوحة إلى جانب أشباعه للقيم الاجتماعية والرمزية في المجتمعات الرعوية، اقول الي جانب ذلك فهناك العلاقات التاريخية والسياسية لهذه المجتمعات بحزب الأمة الذي ظل يتمتع بتأييد كبير في أوساط هذه المجتمعات انعكس في نتائج الانتخابات منذ الاستقلال مما مكنه من امتلاك نفوذ كبير في السياسة السودانية وترجيح أسهامه في هندسة الحياة السياسية منذ سنوات الحكم الثنائي. لقد أسهم دعم حزب الأمة للمجموعات الرعوية بكل من كردفان ودارفور في تمكينها وتقويتها في مواجهة المجموعات غير العربية بكل من دارفور وجبال النوبة ودينكا نقوك بابيي الحالية ودينكا ملوال الذين فصلتهم الحدود السياسية بعد انفصال دولة جنوب السودان في العام ٢٠١١م. لقد أسهم حزب الأمة إبان تولى السلطة في إنشاء قوات المراحيل تحت إشراف اللواء فضل الله برمة ناصر وزير الدفاع في حكومة الصادق المهدي الأولى إبان الديمقراطية الثالثة وهي أعلى تنظيم عسكري تصل له هذه المجموعات آنذاك رغم الدعم غير المنظم لها منذ ستينيات القرن الماضي خصوصا إبان تولى الدكتور موسى ادم مادبو لحقيبة وزارة الدفاع في الديمقراطية الثانية. لقد ورثت الجبهة الإسلامية القومية فيما بعد كل إرث حزب الأمة وسط الحزام الرعوي، حيث انشآ معا اولا قوات الدفاع الشعبي لمواجهة الحركة الشعبية لتحرير السودان في العام ١٩٨٨ إبان إئتلاف حكومة الوفاق الوطني بينهما. وهكذا كي تستفرد الجبهة الإسلامية فيما بعد بكل الإرث بعد انقلابها في العام ١٩٨٩. لقد اتخذ الدعم المركزي للحزام الرعوي منذ العام ١٩٨٩ فصاعدا منعطفا متصاعدا وتغير منهج الدعم تغيرا نوعيا مستهدفا التجييش الكامل للقطاع الرعوي لصالح خوض حرب شاملة ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان في جبال النوبة وجنوب السودان والنيل الأزرق، ومن ثم توجيه بندقيته لتصفية حسابات الصراع ما بين الرعاة (العرب) والمزارعين (العناصر غير العربية) بكل من كردفان ودارفور إبان الثمانينات والتسعينات، كي يتطور نفس

الصراع إلى صراع سياسي بدلا عن كونه صراع بين مجموعات سبل كسب العيش (livelihood groups) ، حيث صوبت البندقية هذه المرة في مبتدأ الألفية صوب الحركات المسلحة الدارفورية والتي كان قوامها العناصر غير العربية بدارفور. إن الصراع بكل من جبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق يجد جذوره في الصراع بين المزارعين والرعاة، حيث اتخذ هذا الصراع نمطا عرقيا حيث يغلب على الفئة الأولى العنصر غير العربي بينما يغلب على الفئة الثاني العنصر العربي. لقد اعتاد مركز الدولة في السودان تحريك مجموعات الحزام الرعوي لصالحه منذ الاستقلال لتوفره على وفورات اقتصادية تمنحه القدرة على تمويل الأنشطة الضرورية وسط هذه المجتمعات التي تنسجم مع أيديولوجية الدولة الرسمية التي كانت تقوم على المركزية العروبية. إذن كانت هذه الأيديولوجية المشتركة (آيديولوجية المركز العروبية ) هي القوام الذي أطال عمر هذا التحالف إلى إندلاع هذه الحرب. في مبتدأ هذه الألفية تأسست قوات حرس الحدود بقيادة الشيخ موسى هلال لمواجهة التمرد الدارفوري في العام ٢٠٠٣. وفيما بعد تم تطوير حرس الحدود إلى قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) ، وهكذا كي يتخذ التحالف بين الدولة المركزية والحزام الرعوي من هذه النقطة منعطفا جديدا لم تصله العلاقة من قبل لجهة الدعم والتنظيم والعلاقات والأدوار التي قامت بها قوات الدعم السريع وصولا للمفاصلة بينها والدولة المركزية ممثلة في الإنقاذ في العام ٢٠١٩م.

كان العام ٢٠١٦ مفصليا وتاريخيا في العلاقة بين حواضن الحزام الرعوي والدولة المركزية السودانية، حيث وجد مركز الدولة نفسه لأول مرة أمام أخطائه التاريخية المتمثلة في دعم جزء من مواطنيه ضد الجزء الآخر تحت غطاء عنصري عرقي وبتسويغ أيديولوجي عروبي َمعتمدا على الوفورات الاقتصادية للدولة المركزية. برز في إطار العلاقة التي نشأت بحرب اليمن مركز جديد أكثر مركزية في مضمار العروبة، هذا الفاعل الجديد يقع في مركز الهوية العربية الأصلية بينما يقع المركز السوداني على تخومها بمنطق النقاء العروبي إن كان من منطق يصح أكثر من منطق الانتماء الوطني كهوية للدولة الحديثة. ذلك من يد، اما من اليد الأخرى فلقد توفر هذا المركز العروبي الجديد على احتياط مهول من الوفورات الاقتصادية والتي تمكن عبرها من خلق ولاء وسط الحواضن الرعوية التي تنتمي لها قوات الدعم السريع وبذا تفتت التحالف التاريخي بين مركز الدولة السودانية وحواضن الحزام الرعوي التي يمثلها الدعم السريع بقيادة حميدتي.. نواصل.