آيديولوجية المركز العروبي في السودان..كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!. (٣-١٠) صهيب حامد
آيديولوجية المركز العروبي في السودان..كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!. (٣-١٠)
صهيب حامد
وكما أسلفنا في الحلقة السابقة ، فإنه ومنذ نهاية القرن السابع عشر ومبتدأ الثامن عشر طفرت علامات في فضاء السلطنة أدت لمتغيرات أضعفت قبضة السلطان ودشنت التفتت التدريجي لقوتها في الفضاء الذي سيطرت عليه. العلامة الأولى ظهور الريال الإسباني، أما العلامة الثانية فهي بروز الصوفية كمؤثر إبتداءا من نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر. يقول تيم نبلوك (صراع السلطة والثروة) أن حركة التجارة في سنار تمحورت حول سلعتين هما الذهب والرقيق ، ولما كان السلطان هو السلطة الوحيدة التي تصدر فرمانات غزو (العبيد) فله حق إمتلاك نصف غنائم الحملة ، وكذلك إلى جانب حقه في إعطاء إذن التنقيب عن الذهب وهو ما يمنحه كذلك نصيب الأسد في االذهب المستخرج . وبذا صار بمكنة السلطان السيطرة على الأسعار عبر التحكم بعرض هاتين السلعتين في السوق. ذلك من جانب أما من يد أخرى فإن السلطان كذلك يتحكم في تجارة القوافل عبر عرف عرض السلع القادمة من الأسواق الخارجية (القاهرة ، جدة ) أولا على السلطان، كذلك لا يحق لأحد عرض تجارته في السوق قبل تجارة السلطان. ولكن ومنذ نهايات القرن السابع عشر الى مطلع القرن الثامن عشر بدأ ظهور التجار الأجانب في السوق السناري من مصريين ومغاربة ويونان وغيرهم وبدخولهم بدأ مظهر من مظاهر الإقتصاد النقدي بتداول (الريال الإسباني) الذي صار أداة تبادل نقدي ثابتة ومضمونة ، وهنا يقول نبلوك أنه ومذاك ضعفت قوة السلطان الاقتصادية بفقدانه السيطرة على السوق عبر التحكم في كمية المعروض من هاتين السلعتين. وهكذا وببروز النخبة التجارية وميولها الإستقلالية نسبيا عن السلطان بدأ تضعضع السلطنة وتفككها. إذن صارت هذه البرجوازية الجديدة طبقة او نخبة موازية لنخبة النبلاء من فرع الاونساب كما يقول إسبولدينق. لقد أسس ذلك لبداية الإقتصاد النقدي في السلطنه ومنه التكوين الجنيني لطبقة التجار البرجوازية وهو ما أشَر لتغير كبير في الأبستيما (نظام الفكر) في المجتمع السناري بحدوده المعروفة.
أما وقد تضافر مع ذلك تطور خطير آخر حدث في نفس الحقبة وهو بروز الصوفية كقطب لإستقطاب الولاء الروحي لدى رعايا السلطنة بديلا للآيديولوجية الفونجية ، إذن نحن إزاء قطع معرفي (أبستيميولوجي) يعكس كل المسلمات الفكرية والثقافية في ذلك الفضاء.يقول د.محمود الزين إن أكثر ما أهَل الصوفية كي تترقى لتحل محل الآيديولوجية الفونجية منذ مطلع القرن الثامن عشر وصاعدا هو كونها (أي الصوفية) تشتغل كنظام فوق قبلي أسهم في توطيد العلائق بين القبائل الأمر الذي شجع عمليات التصاهر والتزاوج والتضامن بين المجموعات القبلية. يواصل د. الزين قائلا إن الصوفية قد تطورت هكذا لتطبع الثقافة في مملكة الفونج بإتجاه أن تصبح أيديولوجيا لكل الفئات حيث أن شيوخ الطرق الصوفية أخذوا يقومون بدور زعماء العشائر فى فض النزاعات القبلية وصاروا ذوى نفوذ واضح على الشيوخ والسلاطين.
ثمة عنصر آخر مهم كان له مصلحة في تغيير قواعد اللعبة سياسيا وإجتماعيا في السلطنة وهم الأرابيب. فالأرباب شخص تنتمي أمه لفرع الأونساب ووالد من العامة ، هي بالطبع حالة تحدث كثيرا خاصة حين يكون هنالك فائض كبير من نساء الأسرة يفوق حوجة النبلاء. ومكمن التعقيد أن الأرباب يكون قلقا من واقع أن يصير أبناءه محض أفراد من العامة إن لم يتزوج الأرباب نفسه إمراة من بنات عين الشمس ، خصوصا في أوقات شح وجود نساء مؤهلات للزواج من الأسرة الأم. من هنا كانت تنبع أهمية التسمية على الأم في المجتمع الفونجي تدليلا على الأرومة والأنتماء للنخبة ، حيث لن نجد إلا نادرا في وثائق البلاط من يتسمون على أبائهم ، فالأغلبية الساحقة في وثائق الفنج رجال يتسمون بأسماء أمهاتهم كالملك بادي الثالث الذي عرف بإبن الاودية (يوسف فضل في تحقيقه للطبقات) وكذلك الملك عدلان ود آية (أو آي) الذي حكم في نهاية القرن السابع عشر ، كذلك النبيل الشهير عبدالله ود امنة الاونسابي وكذلك نجد في الوثائق الأرباب محمد ود بنت القويدي والأرباب علي ود عيشة والأرباب محمد ود الكمير وكذلك نجد مالك الضو ود حوة عدا الولي الشهير من القرن السابع عشر إدريس ود الأرباب الذي ركل مبكرا نسبه من ناحية الأم متسميا بلقب أبيه الأرباب محمد من أوائل من سكنوا ضفاف النيل الازرق من المحس في العيلفون (عيلة الفونج). إذن فليس من خيار أمام أبناء الأرابيب إلا التسمية على آبائهم في حال تكون أمهاتهم من العامة لأن الأب هو من يكون أقرب للأرومة الأونسابية وهو الدافع الذي جعل هؤلاء يميلون للنسب العروبي الذي تنتقل فيه المكانة عبر سلسلة الذكور. إذن تضافر عدة عناصر الآن أدت لإضعاف نظام الفكر (الأبستيمة) الذي تأسست عليها الأرستقراطية الفنجية وهي إنتقال السلطنة لنظام الإقتصاد النقدي ثم بروز الصوفية كآيديولوجية فوق قبلية مؤثرة على المجتمع والسلطة ، وأخيرا بروز الأرابيب كمناصرين للدستور العربي الذي يتيح إنتقال الأرومة عبر سلسلة الذكور.
رجوعا لمذكرات الرحالة جيمس بروس ففي ١٧١٨م قام الخال نول بالإنقلاب على إبن أخته السلطان القاصر أونسة بن بادي الأحمر (برواية الشاطر بصيلي) ونصب نفسه سلطانا ، إذ كان أبنائه من أرومة غير أونسابية من جهة الأم. لم تهتم الأسرة بالانقلاب فلقد كان نول نفسه من أرومة أونسابية من ناحية الأم بل كان يحتل سيد قوم الأونساب ، ولكن الطريف في الأمر أنه قد أورث الحكم لإبنه بادي الرابع (أبو شلوخ) والذي لم يكن أونسابيا من ناحية الأم كما ذكرنا. أولا لم يعزل بادي الرابع أبنائه في القصر ينتظرون التنصيب او الشنق كما يقول جاي اسبولدينق بل تركهم طلقاء في عاصمة المملكة وهو الأمر الذي أحدث إزعاجا وبلبلة لم تحدث من قبل وليس ذلك فحسب بل يذكر كاتب الشونة (وقد قتل باقي الأونساب وأخذ من أهل المراتب أرض آبائهم وأخذ جانب النوبة وأعطاهم أراضي أولاد المراتب القديمة وجعل من أبناء االفور شيوخا مثل خميس ولد جنقال وأخذ جانبهم ضد الفونج وأولاد الملوك السابقين ). إذن نحن أمام تطور سياسي خطير في بلاط السلطنة إبتداءا من 1718. إذن لقد مهّد السلطان نول الطريق لإبنه بادي الرابع للقضاء على الأرثودوكسية الإجتماعية الفنجية والممثلة في فرع الأونساب إلى الأبد ولكن ومن يد فكان لا بد من إنشاء نخبة أرستقراطية جديدة تكون غطاء لممارسة الحكم الجديد.لقد أردف السلطان بادي الرابع هذا العمل بعمل ثوري آخر مدرجا الأرابيب في صفوة بلاط السلطنة والى جانبهم الحليف الآخر وهم (الفقرا). إذن ورجوعا لإسبولدينق فقد قام بادي الرابع بتبني النمط العروبي والإنفصال عن تراث الفنج مما جعل المكانة تنتقل عبر سلسلة الذكور وهو ما فعله فعلا حين شق (أي بادي الرابع) صف المراتب الأدنى من طبقة النبلاء القديمة وبذا حول هؤلاء الأرابيب الى مدافعين ذوي ولاء للدستور العربي الجديد ولشرعية أسرة نول الملكية على حد قول إسبولدينق. لقد إحتاج الطرفان عاليه (بادي والأرابيب) إلى منظرين آيديولوجيين جدد لتبرير هذا الإنقلاب فسدَ (الفقرا) من متصوفة القرن الثامن عشر هذه الثغرة بحماسة لا نظير لها وموهبة لا تنئ.. نواصل.